اعلم أن الجنائز عبرة للبصير وفيها تنبيه وتذكير لأهل الغفلة، فإنها لا تزيدهم مشاهدتها إلا قساوة، لأنهم يظنون أنهم أبدا إلى جنازة غيرهم ينظرون، ولا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون، أو يحسبون ذلك ولكنهم على القرب لا يقدرون، ولا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز هكذا كانوا يحسبون، فبطل حسبانهم، وانقرض على القرب زمانهم، فلا ينظر عبد إلى جنازة إلا ويقدر نفسه محمولا عليها، فإنه محمول عليها على القرب، ولعله في غد أو بعد غد.
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان إذا رأى جنازة قال: امضوا فإنا على الأثر.
وكان مكحول الدمشقي رحمه الله إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له.
وقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: ما شهدت جنازة فحدثتني نفسي بشيء سوى ما هو مفعول به وما هو صائر إليه.
ولما مات أخو مالك بن دينار رحمهما الله خرج مالك في جنازته يبكي ويقول: والله لا تقر عيني حتى أعلم إلى ماذا صرت إليه، ولا أعلم ما دمت حيا.
وقال الأعمش رحمه الله: كنا نشهد الجنائز فلا ندري من نعزي لحزن الجميع.
وقال ثابت البناني رحمه الله: كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا متقنعا باكيا.
فهكذا كان خوفهم من الموت، والآن لا ننظر إلى جماعة يحضرون جنازة إلا وأكثرهم يضحكون ويلهون، ولا يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته، ولا يتفكر أقرانه وأقاربه إلا في الحيلة التي بها يتناول بعض ما خلفه، ولا يتفكر واحد منهم إلا ما شاء الله في جنازة نفسه وفي حاله إذا حمل عليها، ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلوب بكثرة المعاصي والذنوب حتى نسينا الله تعالى واليوم الآخر والأهوال التي بين أيدينا، فصرنا نلهو ونغفل ونشتغل بما لا يعنينا، فنسأل الله تعالى اليقظة من هذه الغفلة فإن أحسن أحوال الحاضرين على الجنائز بكاؤهم على الميت، ولو عقلوا لبكوا على أنفسهم لا على الميت.
نظر إبراهيم الزيات رحمه الله إلى أناس يترحمون على الميت فقال: لو تترحمون على أنفسكم لكان خيرا لكم، إنه نجا من أهوال ثلاثة: وجه ملك الموت وقد رأى، ومرارة الموت وقد ذاق، وخوف الخاتمة وقد أمن.
وقال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله: جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه شعرا، فأطلعت جنازة فأمسك وقال: شيبتني –والله- هذه الجنائز، وأنشأ يقول:
تروعنا الجنائز مقبلات *** ونلهو حين تذهب مدبرات
كروعة ثلة لمغار ذئب *** فلما غاب عادت راتعـات
فمن آداب حضور الجنائز: التفكر والتنبه والاستعداد والمشي أمامها على هيئة التواضع. ومن آدابه: حسن الظن بالميت وإن كان فاسقا، وإساءة الظن بالنفس وإن كان ظاهرها الصلاح، فإن الخاتمة مخطرة لا تدرى حقيقتها، ولذلك روي عن عمر بن ذر رحمه الله أنه مات واحد من جيرانه –وكان مسرفا على نفسه- فتجافى كثير من الناس عن جنازته، فحضرها هو وصلى عليها، فلما دلي في قبره وقف على قبره وقال: يرحمك الله يا أبا فلان، فلقد صحبت عمرك بالتوحيد، وعفرت وجهك بالسجود، وإن قالوا: مذنب وذو خطايا، فمن منا غير مذنب وغير ذي خطايا.
ويحكى أن رجلا من المنهمكين في الفساد مات في بعض نواحي البصرة، فلم تجد امرأته من يعينها على حمل جنازته إذ لم يدر بها أحد من جيرانه لكثرة فسقه، فاستأجرت حمالين وحملتها إلى المصلى فما صلى عليه أحد، فحملتها إلى الصحراء للدفن فكان على جبل قريب من الموضع زاهد من الزهاد الكبار، فرأته كالمنتظر للجنازة، ثم قصد أن يصلي عليها فانتشر الخبر في البلد بأن الزاهد نزل ليصلي على فلان، فخرج أهل البلد فصلى الزاهد وصلوا عليه، وتعجب الناس من صلاة الزاهد عليه، فقال: قيل لي في المنام: انزل إلى موضع فلان ترى فيه جنازة ليس معها أحد إلا امرأة فصل عليه فإنه مغفور له. فزاد تعجب الناس فاستدعى الزاهد امرأته وسألها عن حاله وكيف كانت سيرته قالت: كما عرف كان طول نهاره في الماخور مشغولا بشرب الخمر، فقال: انظري هل تعرفين منه شيئا من أعمال الخير، قالت: نعم، ثلاثة أشياء: كان كل يوم يفيق من سكره وقت الصبح يبدل ثيابه ويتوضأ ويصلي الصبح في جماعة ثم يعود إلى الماخور ويشتغل بالفسق. والثاني أنه كان أبدا لا يخلو بيته من يتيم أو يتيمين وكان إحسانه إليهم أكثر من إحسانه إلى أولاده، وكان شديد التفقد لهم. والثالث أنه كان يفيق في أثناء سكره في ظلام الليل فيبكي ويقول: يا رب، أي زاوية من زوايا جهنم تريد أن تملأها بهذا الخبيث؟ -يعني نفسه- فانصرف الزاهد وقد ارتفع إشكاله من أمره.
وعن صلة بن أشيم رحمه الله –وقد دفن أخ له- فقال على قبره:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة *** وإلا فإني لا أخالك ناجيا